يا صاحب الرسالة ..
يا من تُعرف وسط ألوف من الناس، كسبيكة الذهب الأصلية بين الزيف، وحبة اللؤلؤ الطبيعي في كومة الخرز الرخيص.
يا صاحب الرسالة
هذه رسالتي إليك إن كان عزمك قد وهن، وعهدك قد نُسي.
هذه وصيتي
لمن زار الفتور روحه، وانخفضت لذلك درجة حرارة القلب، وتعرَّض لوعكة روحية.
لمن ..
توالت عليه المسئوليات فاضطربت عنده الأولويات: الدنيا ومشتقاتها في رأس القائمة والآخرة في المؤخِّرة!!
غيث الكلِمات:
ربما كان البكاء كافيا في حق غيرك، أما أنت فدموعك وأحزانك لهما وظيفتان: رفع الحق ودفع الباطل.
هذا الكتاب ديوان من دواوين الحماسة، وشعلة من شعلات العزم توقد البأس وتقدح زناد الفكر وتُعلي الهمم.
هو عصارة هَمٍّ وزفرة ألم.. أوجِّهها إلى من نسي مهمته وانشغل عن رسالته وأخذته دنياه بعيدا عن غايته.
وليس له فحسب .. بل لكل مسلم حيث نصرة الدين أمانة في عنقه مهما كان عليه من معصية من أكل الربا إلى ارتكاب فاحشة.
ليس هذا كتابا لطائفة خاصة من الأمة أو للصفوة من دعاتها بل للأمة بأسرها، ولكل لمن يعقل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم رجلا كان أو امرأة، شابا كان أو شيخا، أيًّا كان موقعه أو درجة قربه أو بعده عن ربه، ومهما كان علمه وثقافته، حيث واجب نصرة الدين قد طوَّق عنق الجميع، من آكل الحرام إلى المتهجِّد بالقيام، ومن مرتكِب الفحشاء إلى السامي إلى العلياء.
هذا الكتاب يُخاطب به الشيخ ذو الشيبة الذي يمتلك عزما وهمة، ولا يخاطب به الشاب مقعد الهمة الدنيوي.
أولا: مهموما بدعوته:
لماذا الهم بالدعوة؟!
كيف لا تحمل هَمَّ دعوتك..•
* وأنت ترى المنكرات تملأ الأرجاء حتى لو رآنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنكرنا.
• وأنت تخرج للأسواق فلا ترى غير شباب تائه يبحث عن فريسة تتعرَّض له وتتهادي بين يديه!!
• وأنت تعيش في أمة المليار ومع هذا لم تحصد في ميادين الإنجاز سوى الأصفار!!
• وأنت ترى التبرج يستشري والعري يسري وحجاب بناتنا يذوي، وإن ارتدينه فمظهر لا جوهر وشخص بلا روح، فلا سلوك يدل عليه أو آداب تبشِّر به.
• وأنت ترى غزة الأبية تعاني ما لو مَرَّ بالحديد لذاب و بالوليد لشاب؟!
• وقد علا صوت الباطل وخفت صوت الحق، وصار الأمر إلى ما قال شيخ الإسلام مصطفى صبري: إذا قلتُ المحال رفعتُ صوتي وإن قلتُ اليقين أطلتُ همسي.
• والدعوة كل يوم تطلبك وتستصرخ نجدتك وترتقب عودتك، ودينك الذي هو أغلى الأشياء أضحى وأمسى تحت القصف ولا ناصر أو مغيث؟!1-قيمتك = هِمَّتك:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «العامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب»( ).
وفي ضوء هذه القول الساطع .. ما هو قدرك عند الله؟! كم تزن عنده؟! ما قيمتك الحقيقية من غير أموالك وجاهك وسلطانك؟!
تريد أن تعرف؟!
اسأل نفسك: أي همٍّ تحمل؟!
دنيا زائلة ومتاع فان؟!
وظيفة مغرية تمتص رحيق شبابك لتذبل بعدها زهرة حياتك؟!
منصب مرموق تسعى إليه ثم تُعزَل عنه عاجلا أو آجلا؟!
امرأة تحبها ثم ينزل بكما الموت فتغادرها أو تغادرك؟!
أم أن همَّك جنةٌ أبدية عرضها السماوات والأرض، يفوز بأعلى درجاتها من بلغ أعلى درجات الإيمان في الدنيا، وهل أعلى من العمل أجيرا عند الله لتبليغ رسالته ونشر هدايته؟!
وهل هناك ما هو أحسن من الدعوة إلى الله؟!
والجواب حاضر في كتاب ربِّك : )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ فصلت: 33]
صاحب الرسالة خبير بالأعمال (ومراتبها عند الله، ومنازلها في الفضل، ومعرفة مقاديرها، والتمييز بين عاليها، وسافلها، ومفضولها وفاضلها، ورئيسها ومرؤوسها، وسيدها ومسودها؛ فإن في الأعمال والأقوال سيدا ومسودا، ورئيساً ومرؤوسا، وذروة وما دونها)( ).
وإنه لشرف عظيم ونعمة عظمى أن اصطفاك الله من وسط خلقه لتحمل رسالته، وتنال شرف الاتباع: اتباع النبي صلى الله عليه وسلم واقتفاء أثره، وكفى بهذه شرفا، فهذه وحدها كافية للحشر تحت لوائه ومجالسته على سرير واحد في قصور الجنة، وهو ما علمته ثم عملت به -بارك الله فيك-حين غاب عن كثير ممن حولك.
يقول ابن القيِّم: «ولا يكون من أتباع الرسول على الحقيقة إلا من دعا إلى الله على بصيرة. قال الله تعالى: ﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ﴾
4﴾ تفسير لسبيله التي هو عليها، فسبيله وسبيل أتباعه: الدعوة إلى الله، فمن لم يدع إلى الله فليس على سبيله»( ).
والدعوة إلى الله تعالى -كما علمك من ربَّاك ودعاك- هي وظيفة المرسلين وأتباعهم، ولأنها أشرف المهام فقد سبقت غيرها من الأعمال كما أشار إلى ذلك ابن القيِّم: «وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم جعلنا الله تعالى منهم بمنِّه وكرمه»( ).
ولأن الدعوة سبقت غيرها من الأعمال فقد سبق حاملوها غيرهم من العباد. قال ابن القيم يصفكم ويثني عليكم: «وهؤلاء هم خواص خلق الله، وأفضلهم عند الله منزلة وأعلاهم قدرا»( ).
ولكن هذه الخيرية ليست مطلقة أو مرسلة دون دليل، بل تسبقها صحائف الأعمال، وتتكلم عنها سجلات الإنجازات، وفي مقدمتها: «كم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وضال تائه قد هدوه، بذلوا دماءهم وأموالهم دون هلكة العباد»( ).
من أجل هذا كلِّه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في وجودكم نعمة ربانية ومنحة إلهية تستحق الحمد، فقال رضي الله عنه: «الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضلَّ إلى الهدى»( ).
فكيف لا تحتل الدعوة بعد هذا كله قمة اهتماماتكم وذروة أولوياتكم، وكيف لا تتحرَّقون شوقا للعمل في صفوفها ورفع لوائها؟!
أما الهمة السافلة!!
يروي الرواة أن الحطيئة هجا الزبرقان بقصيدة قال فيها: دعِ المكارم لا ترحل لبُغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فجاء الزبرقان يشكو الحطيئة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويتهمه بأنه هجاه ، فقال عمر: ما أسمع هجاءً ولكنها معاتبةٌ؛ فقال الزبرقان: أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس! فقال عمر: عليَّ بحسان، فجيء به فسأله؛ فقال: لم يهجه ولكن سلح عليه. ويقال: إنه سأل لبيداً عن ذلك فقال: ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأن لي حمر النعم، فأمر به عمر فحُبِس.
فانظر كيف كانت همَّة الطعام والشراب معيبة، وعارا لا يفارق صاحبه، وسُبة في جبينه تلزمه أبد الدهر حتى الموت!!
وانظر بعدها إلى همم الناس حولك، هل تجدها اليوم إلا في زوجة حسناء وحلم بقصر مشيد ونزهة ومتعة وأكلة وشربة؟! هل ترى أكثرهم إلا حافظي أموال ومضيعي دين!! في دائرة الهجاء يدورون وداخل حلقة الذمِّ مُحاصرون؟!
أما أنت .. فالحمد لله الذي عافاك، حملت أشرف هم وأجل غاية، فهَمُّك دعوتك، وشغلك رسالتك، ويحق لك أن تفرح بذلك وتفخر بذلك وتصدح في العالمين بذلك. قال الإمام البنا مخاطبا جمهور الدعاة غارسا فيهم هذا الشعور: «ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس».
وهو الفخر الوحيد الممتد والباقي إلى يوم القيامة، حين تتساقط كل ألوان الفخر الزائفة من الفخر بالمال أو الحسب أو الجاه أو النسب، ولا يبقى سوى الفخر الوحيد الصالح للتداول يومها: الفخر بالطاعة واتباع الحبيب، ليحق لك عندها أن تهتف بهتاف ابن الوزير اليمني:
يا حبَّذا يوم القيامة شُهرتــي *** بين الخلائق في المقام الأحمد
لمحبتي سنن الرسول وإنني *** فيهــا عصيت مُعنِّفــي ومُفنِّدي
وتركت فيها جيرتي وعشيرتي ومحل أترابي وموضع مولدي2.لحمك ودمك
كان الحسن البصري يقول: «يا ابن آدم!! دينك دينك فإنه هو لحمك ودمك، إن يسلم لك دينك يسلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله، فإنها نار لا تطفى، وجرح لا يبرأ، وعذاب لا ينفد أبدا، ونفس لا تموت»( ).
أخي في الدعوة .. ماذا تفعل لو أصابك جرح قاطع أدى إلى نزف مستمر؟! هل تتألم؟! وبعد الألم ماذا يكون إن لم يكن استدعاء الطبيب والهرولة إلى المستشفى قبل أن يؤدي الجرح -ولو كان صغيرا- إلى موتك!!
فهل جسدك أغلى عليك من دينك؟! هل إذا جُرِح دينك بتضييع حدوده وانتهاك حرماته تُسرِع لإغاثته بالعمل له والبذل في سبيله، وتتردَّد على مشافي الدعوة بدلا من التردد على مآتم الأحزان في الزوايا والأركان؟!
هل تنصر دينك بحركة تؤيِّده وسعي حثيث يضمِّد جراحه، وإذا فعلت فهل يكون هذا بروح مضطرمة وعزيمة متقدة أم بتثاقل وبرود!!
نفس ما نطق به الحسن البصري في القرن الثاني الهجري نطق به المودودي في القرن الرابع عشر الهجري، فكلاهما خرج من مشكاة واحدة لأن نسب الإيمان واحد، فقال في تذكرته القيِّمة:
«إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار مُتَّقدة تكون في ضرامها على الأقل!!! مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابنا له مريضا ولا تدعه حتى تجره إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئا يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.
وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم آخذة عليكم ألبابكم وأفكاركم، فإنكم لا تقدرون أن تحرِّكوا ساكنا بمجرد أقوالكم».
وهذا لأن شأن الدعوة شأن العلم، لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، وبغير هذا لا يكون نتاج ولا حصاد ثمار3.شدة الهجمة:
يقول الإمام حسن البنا: «قد ينشأ الشاب في أمة وادعة هادئة ، قوي سلطانها واستبحر عمرانها ، فينصرف إلى نفسه اكثر مما ينصرف إلى أمته ، ويلهو ويعبث وهو هادئ النفس مرتاح الضمير.
وقد ينشأ في أمة جاهدة عاملة قد استولى عليها غيرها، واستبد بشؤونها خصمها فهي تجاهد ما استطاعت في سبيل استرداد الحق المسلوب، والتراث المغصوب ، والحرية الضائعة والأمجاد الرفيعة، والمثل العالية.
وحينئذ يكون من أوجب الواجبات على هذا الشباب أن ينصرف إلى أمته أكثر مما ينصرف إلى نفسه، وهو إذ يفعل ذلك يفوز بالخير العاجل في ميدان النصر، و الخير الآجل من مثوبة الله».
يا غافلا ليس بمغفول عنه.
يا غافلا عن كيد أعداء لا يغفلون عنه لحظة.
أمتنا اليوم تواجه عدوا شرسا.. كشَّر عن أنيابه .. وأظهر ما كان مستورا في فؤاده .. سخَّر طاقاته وثرواته لبلوغ مراده، وتحالف مع أمثاله لتعجيل أهدافه، أيواجه هذا كله بهمم خائرة وعزائم مريضة وتسويف فعال وسط كومة أقوال؟!
ومن هنا حمل صاحب الرسالة همَّ الدعوة التي تتصدى لهؤلاء الأوغاد، لأنه يرى أن السكون إذا هجم العدو خيانة، ولأن المعركة محتدمة ونبض كثير ممن حوله صفر!!
هذه المعركة التي خلَّفت آهات الثكالى، وأنات المعذبين، وأشواق المغيبين في سجون اليهود والظالمين، ورحم الله الإمام البنا حين استشعر هذه التبعة الثقيلة والمهمة المقدَّسة فقال يصف حاله وحال كل حي القلب وافر المروءة: «ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل، والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء، ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء... ولهذا وأمثاله نعمل، ولإصلاح هذا الفساد وقفنا أنفسنا فنتعزى، ونحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه».
إخوتاه .. ما أحوجنا اليوم إلى النائحة الثكلى وأغنانا عن أختها المسـتأجرة!
أنت.. نعم أنت!!
لكن يجب أن نعترف أن من محاسن هذه الهجمة الشرِسة أنها جعلتنا نفطن إلى سر الانتصار ومعادلة الظفر ومفتاح القفل المحكم المؤدي إلى كشف الغمة .. إنه أنت!! نعم أنت.
يقول الإمام حسن البنا: «إن تاريخ الأمم جميعا إنما هو تاريخ ما ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات . وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما يقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة . وإني أعتقد – والتاريخ يؤيدني – أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت رجولته».
فلماذا لا تكون أنت هذا الرجل؟! أنت الأمل المرتقب .. أنت المعجزة الربانية .. فكيف لا تسعى لنيل هذا الشرف وحيازة قصب السبق؟!
إذا قالوا: الأُلى، خِلْنا بأنَّا القصدُ والهدف يسير الناس إن سرنا، وإن قلنا: قِفوا وقفوا 4.الكفاية الغائبة:
ومما يدفع لحمل هم الدعوة أن أصحاب الرسالة يعلمون أن الدعوة من الفروض الكفائية، وأن هذه الكفاية لم تتحقق إلى اليوم، لذا انقلبت إلى فرض عين، فبذلوا غاية المجهود لتحقيق هذه الفريضة.
علموا قلة العاملين وكثرة المتهاونين وتصاعد الكيد وتمادي الكفر وأذناب الكفر، ورأوا بأعينهم سرعة الهدم وسهولته مع بطء البناء ومشقته، وهروب كثير من بني قومهم عن الجنة وسعيهم حثيثا نحو النار، وسقوطهم من الحفرة التي صنعها لهم أعداؤهم والكمين المنصوب لهم، فحملوا هذا الهم الثقيل الذي تحوَّل إلى عمل نبيل، فضاعفوا الأوقات التي بذلوها، والأموال التي قدَّموها.
آمنوا أن من لم يحمل همَّ الدعوة ومسؤولية الدين فهو آثم في فقه أصحب الهمم العالية، فتقدَّموا الصفوف ورفعوا اللواء
5.تلبية النداء:
والاستجابة لأمر الله الذي خاطب أحب الخلق إليه: وصاحب الرسالة يعلم أن هذا الخطاب يشمله ويشرِّفه. جاء في التفسير: •«شمِّر عن ساعد العزم وأنذر الناس»( ).
• «قم قيام عزم وتصميم» ( ).
• «قم فاشتغل بالإنذار وإن آذاك الفجار» ( ).
• «إنه النداء العلوي الجليل للأمر العظيم الثقيل ... نذارة هذه البشرية وإيقاظها، وتخليصها من الشر في الدنيا، ومن النار في الآخرة وتوجيهها إلى طريق الخلاص قبل فوات الأوان»( ).
• «قم فما يُعهد من صاحب رسالة نوم .. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك ..
قم للجهد والنصب والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة»( ).
وكان هذا النداء الذي تتردَّد أصداؤه بيننا إلى اليوم إيذانا بشحذ العزائم، وتوديعا لأوقات النوم والراحة، والتلفف بأثواب الهجوع ، وكان إشعارا بالجد الذي يصنع الحدث ويرميه في حجر أعدائه ليتفاعلوا معه، لا أن ينتظر كيد العدو ليتفاعل هو معه.
صاحب الرسالة يا دعاة يسبق الحدث لا ينتظره حتى يقع، ويسابق الزمن خوف الفوت، متوثباً إلى غايته النبيلة وهدفه السامي، وصوته الهادر يبايع نبيه موقِّعا معه عقد البذل والاستشهاد صائحا:
نبي الهدى قد جفونا الكرى *** وعِفنا الشهي من المطعم
نهضنا إلى الله نجلو السرى*** بروعـــة قرآنـــه المنــزل
يا صاحب الرسالة .. افهم ما يُراد منك:
أنت صاحب دعوة ينتظرها المسلمون في جميع الأرض، المحاصرون في غزة، والمعذبون في كشمير، والمقهورون في العراق، بل وكل من طالت محنته وأنهكته المظالم.
أنت اليوم في مواجهة حاسمة مع عدو متبجِّح يصل الليل بالنهار في سبيل اقتلاع دينك، أو على الأقل تركه في قلوب الناس صنما لا روح فيه، فماذا أنت صانع؟!
أنت قائد التغيير البشري اللازم لوقوع التغيير الإلهي المرتقب، فكيف نطلبك فلا نجدك؟!
إن الدعوة كما وصفها بعض الفضلاء منهج تغيير كامل وثورة شاملة، إنها إبطال الباطل وإحقاق الحق، إنها أمانة عظمى ورسالة كبرى، إن مهمة الداعية أن يقيم مكان كل باطل يمحوه حقا، ومكان كل ضلال هديا، ومكان كل شر يبيده بدعوته خيراً يزرعه بعمله، ومكان كل ظلم عدلاً ينشره، ومكان كل رذيلة يمزقها فضيلة يؤسسها، ومكان كل تسلط بالبغي والكبرياء الآثمة تراحما ومساواة.
يا ابن الدعوة .. يا صاحب الرسالة .. يا وريث أولي العزم من الرسل .. إنها الأمانة الثقيلة التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال وحملتها أنت، فعلمت بذلك أنك لابد أن تكون أقوى من السماوات والأرض والجبال!! فهذه الأمانة لن يحملها ضعيف متخاذل ، ولا كسول متراخ ولن يصلح لها إلا الجد والقوة، وهذه هي لغة القرآن .. ألم تسمع : ﴿ يا يحيى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً* وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا* وَبَرًّا بِوَلِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً* وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ﴾ [ مريم: 12]
أما وقد سمعت، فانزع عنك ما نسجته غفلتك من دثار وشعار، واقتل على الفور كل مبرِّرات التخلف والأعذار.
اعرف قدر نفسك .. وموضع قدمك .. يا مقتفي الأثر الرائع .. أثر محمد وصحبه: أنت لابس لأمته في معركته مع الباطل ..أنت خليفته في دعوته أنت راقي منبره لتعظ الأمة من ورائه ..أنت وارث رسالته.
يا من تسلَّم الراية منه قبل أن تسقط .. هل سقطت منك الراية؟!
يا من حمل شعلة الهداية من يده لتنير بها الوجود .. هل انطفأت بين يديك الشعلة؟
6.بديل الجهاد:
يا صاحب الرسالة .. مثلي ومثلك كان الأولى بهم أن يكونوا في ساحة الجهاد ويرتدوا بزَّة القتال الذي صار فرض عين على كل فرد منا بعد اغتصاب الأرض وتدنيس المقدَّسات، فإذا ما حيل بيننا وبين الجهاد، فكيف نبرهن على صدق نياتنا واشتياق قلوبنا للقاء عدونا وتحرير مسرى نبينا؟! كيف؟!
والله ما من وسيلة ولا طريق لإسقاط وزر القعود عن الجهاد وإثم التخاذل عن نصرة إخواننا المستضعفين غير حمل هم الدعوة والاحتراق عملا لديننا، فلا يصلح في هذا المضمار سوى أعمال الأبرار، وما سوى ذلك ليس سوى أوهام، فإن لم نبذل لديننا حال رخائنا، ولم تحدِّثنا نفوسنا بالغزو معظم وقتنا، فأخشى أن نموت على شعبة من النفاق دون أن نشعر.
أخي صاحب الرسالة .. أنت مجاهد، والجهاد هو بذل غاية الجهد، فهل بلغت غايتك وأصبت ذروتك في سبيل دعوتك؟!
يا ابن الدعوة .. يا من يجري في عروقه دم الشهامة والركض في ميدان العلم والعمل ..
أيها المجاهد البطل ..أرأيت مجاهدا نائما في ساحة قتال والرؤوس حوله تتطاير ؟!
أسمعت عن بطل صال وجال دون نضال وملحمة؟!
وقد فهمها المجنون من قبلك!! وأقصد به مجنون ليلى وهو الذي فهم أنه يستحيل أن يحب دون أن يتأثر بمصاب من أحب، فيمرض لمرضه ويأسى بِأَساه، واسمع له يقول:
أقول لظبى مرَّ بي في مفازة *** لأنت أخو ليلى، فقال: يُقال
أيا شبه ليلى إنَّ ليلى مريضةٌ *** وأنت صحيحٌ إنَّ ذا لمُحال
7.هجمة قبل هجمة:
إن لم تهاجم شيطانك هاجمك، وإن لم تُتعبه أتعبك، وإن لم تحمله على الركوض خلفك أركضك ذليلا لاهثا وراءه، وحين تتخدَّر غيرتك على دعوتك وتتبلد مشاعرك تجاه مصاب أمتك فاعلم أن الشيطان قد غزاك.
فبدلا من أن تدعو غيرك إلى الخير يدعوك شيطانك إلى الشر، فتسقط صلاة الفجر من أولوياتك، وتضيع الأذكار المأثورة من أورادك، ويضيع معها ذكر الله وحفظه لك، ويستمر الانهيار ، لتسقط فريسة لأفلامٍ تعرض من العري والإثارة ما يسلب الإيمان، ويتفاقم الأمر وتتدهور الحالة فتنزل بك حالة اللا مبالاة، فلا شعور بالذنب أو تدارك للأمر.
وتفسير هذا أن الدعوة إلى الله من أعظم النعم، ومن لم يعرف شرفها ومكانتها سُلِبها وشُرِّف بها غيره، ورحمة الله على الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز حين عرف قدر النعمة فحفظها وصان الهدية الغاية، فنقل عنه ابنه عبد الله: «ما قلَّب عمر بن عبد العزيز بصره إلى نعمة أنعم الله بها عليه إلا قال: اللهم إنى أعوذ بك أن أبدِّل نعمتك كفرا، وأن أكفرها بعد أن عرفتُها، وأن أنساها ولا أُثني بها»( ).
وتذكَّر أخيرا .. أنك حين تصون النعمة بشكرها تغيظ أعداءك الذين كادوا لك، وأرادوا صرفك عن هدفك، وإلهاءك عن غايتك، فلا تأكل الطُّعم الذي أُلقي إليك، لتصفعهم بهمتك العالية وثباتك على دعوتك، فيرتدوا خائبين لم ينالوا شيئا.
صراع الهموم!!
﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [ آل عمران: 154]
فهؤلاء المنافقون لا همَّ لهم إلا أنفسهم، لا همَّ الدين ولا همَّ النبي أو المسلمين، وكما لا يجتمع سيفان فى غمد، فكذلك لا يجتمع همَّان في قلب، ولما كان أحب الأشياء لدى المنافقين أنفسهم، وأسباب الخوف على النفس لا تخلو منها الحياة، لذا ولَّوا وجوههم شطر أنفسهم، أما أصحاب الرسالة فقبلتهم دينهم، ويعيشون لأمتهم أكثر مما يعيشون لأنفسهم، ويبذلون في سبيلها كل ما يستطيعون من جهد ووقت ومال، فبسببهم يتنزَّل الغيث على الجميع ويعُمُّ الخير، وهي إحدى صفتين لمحهما أبو الحسن الندوي في الإمام حسن البنا، ثم عمَّمها على أي صاحب رسالة حين قال: «وقد تجلَّت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها، في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء والمصلحين: أولاهما: شغفه بدعوته واقتناعه بها وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ورسائله، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يُجري الله على أيديهم الخير الكثير».
وعلى الضد من هذا .. حين يغيب همُّ الدعوة عن قلوب أصحاب الرسالات ينشغلون بأنفسهم، وتكثر أعمالهم وتقِلُّ ثمارهم، وتتعالى الأصوات ولا يقع البلاغ، وتؤدَّى الأنشطة بغير روح فلا تصل إلى الروح.
وبذا ينقسم الناس إلى قسمين: قسم يفكِّر في نفسه، وآخر يفكِّر في غيره، وقد وجد الأطباء النفسيون أن أكثر المصابين في أعصابهم اليوم هم من الصنف الأول؛ لأن تحويل الضغوط النفسية الداخلية إلى عمل خيري خارجي ثبت أنه من أكثر الأعمال إفادة وتأثيرا في الصحة النفسية؛ ولذلك ترى العاملين في الخدمات العامة والعمل الخيري أقلَّ الناس تعرضا للاضطرابات العصبية.
لكل شيء علامة!! فما علامة اهتمامك بدعوتك؟
1. الاعتذار للأعذار:
قال الله عز وجل في سورة النور أنار الله قلبك: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [ النور: 62]
جاء في التفسير أنها نزلت في غزوة الخندق، حين تألب الأحزاب على المسلمين، فأقرَّ النبي ^ فكرة سلمان الإبداعية في حفر الخندق، وبدأ التحدي حين قطع النبي ^ لكل عشرة من الصحابة حفر أربعين ذراعا، ليستمر العمل شهرا كاملا، وكان العمل شاقا في شدة جوع، وقلة زاد، ورعب زلزل الأفئدة، وتسابق مع الزمن قبل أن يصل الأحزاب المدينة وإلا فشلت الخطة من الأساس، وفي خضم هذه المشغلة النفسانية العنيفة كان البعض يتسلل إلى بيته بغير إذن النبي صلى الله عليه وسلم تاركينه وأصحابه يحفرون!! فنزلت هذه الآية، وأمرهم الله أن يستئذنوا، ليكون الاستئذان علامة فارقة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين المتخاذلين.
والعجيب في الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِر بالاستغفار لمن استأذن مع كونه صاحب عذر!! فكيف بمن تخلف دون استئذان ولعله بغير عذر؟!
إنها تربية الصف المؤمن على أن يراجع كل منا نفسه، فكل تخلف عن فرصة خير هو في حقيقته حرمان من شرف خدمة الدين، ولعله كان عقوبة على ذنب سلف أو تقصير فرط، أو لعله بعذر غير قاهر كان يمكن التغلب عليه، وكل هذا يوجب الاستغفار . قال الألوسي وغيره: «فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة»( ).
ولوضوح المعنى فقد رأى نفس الأنوار الإمام الرازي فقال: «أن يستغفر لهم تنبيها على أن الأولى أن لا يقع الاستئذان منهم وإن أذن، لأن الاستغفار يدل على الذنب»( ).
وفارق شاسع يا إخوتاه بين من تخلَّف عن فرصة خير فتألم وتفطَّر قلبه وزاره الأرق بالليل فخرَّ مستغفرا ، وآخر تخلَّف دون أن يشعر بشيء أو قائمة أعذاره سابقة التجهيز، الأول ينال أجره كاملا غير منقوص والثاني لا شيء له بل عليه!!
الأول فرد في طائفة «إن بالمدينة أقواما ما سِرتُم مسيرا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم فيه وهم بالمدينة، حبسهم العذر»( ).
أما الثاني عضو في فريق: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ [ التوبة: 46]
وإن كانت هذه الآية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ذلك يصلح أن ينسحب على غيره ممن تولى مسئولية أو إمارة دعوية لا نهضة للإسلام اليوم إلا بها، ولهذا قال الحسن: «وغير الرسول ^ من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس»( ).
ومن هنا ذهب الطاهر بن عاشور إلى استنباط هذه القاعدة الإدارية الهامة فقال في ألفاظ سالت حروفها من العسل: «وهذه الآية أصل من نظام الجماعات في مصالح الأمة، لأن من السنة أن يكون لكل اجتماع إمام ورئيس يدير أمر ذلك الاجتماع، ومن السُنَّة أن لا يجتمع جماعة إلا أمَّروا عليهم أميرا، فالذي يترأس الجمع هو قائم مقام ولي أمر المسلمين، فهو في مقام النبي ^ فلا ينصرف أحد عن اجتماعه إلا بعد أن يستأذنه، لأنه لو جعل أمر الانسلال لشهوة الحاضر لكان ذريعة لانفضاض الاجتماعات دون حصول الفائدة التي جُمعت لأجلها».
بئست التركة!!
إن كثرة الاعتذارات هي ميراث أهل النفاق، وفي نظر صاحب الرسالة هي نذير خطر داهم يقترب، أو هي بمثابة قمة جبل الجليد الذي يظهر مقدار عُشره على سطح الماء بينما يختفي تسعة أعشاره، وكذلك كثير الأعذار لا يظهر من عيوبه إلا العُشر، وتسعة أعشار مساوئه متواري، ويظل الشيطان يقتات على البقية الصالحة من قلبه، لتظل عيوبه تتوالد مع تتابع قعوده، وسيئاته تتكاثر بتوالي اعتذاراته حتى يصل إلى النهاية الحتمية المؤسفة: تفتر همته الدعوية وتبرد عزيمته الإيمانية، فيقعد عن السير مع القافلة المباركة.
2. الرباط الرباط:
أصغِ إلى هذا الموقف في مغازي الواقدي: في رجوع الصحابة من غزوة ذات الرقاع قال النبي صلى الله عليه وسلم: من رجلٌ يكلؤنا الليلة؟ فقام عمار بن ياسر وعبَّاد بن بِشر، فقالا: نحنُ يا رسول الله نكلؤك، وجعلت الريح لا تسكن، وجلس الرجلان على فم الشعب،فقال أحدهما لصاحبه: أيُّ الليل أحب إليك أن أكفيك أوله فتكفيني آخره؟ قال: اكفني أوله، فنام عمار بن ياسر وقام عبَّاد بن بشر يصلي، وأقبل عدو الله، ففوَّق له سهما فوضعه فيه فانتزعه، ثم رماه بآخر فوضعه فيه فانتزعه، ثم رماه الثالث فوضعه فيه، فلما غلب عليه الدم ركع وسجد، ثم قال لصاحبه: اجلس فقد أتيت، فجلس عمار، فلما رأى الأعرابي أن عمارا قد قام علم أنهم قد نذروا به، فقال عمار: أي أخي .. ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟ قال: كنت في سورة أقرؤها وهي سورة الكهف، فكرِهت أن أقطعها حتى أفرغ منها، ولولا أني خشيت أن أُضيِّع ثغرا أمرني به رسول الله ^ ما انصرفت ولو أُتِي على نفسي!!
وكلنا اليوم وقوف على نفس الثغر الذي وقف عليه عبَّاد، ونشهد نفس الموقف بحذافيره، في ظل هجمة شرسة على رسول الله وحرب سافرة على الإسلام وحملة عدوان ممنهجة تستهدف زلزلة ثوابت الأمة وتمييع عقيدتها ونهب ثرواتها، وكأنَّ صوت رسول الله يهتف بيننا اليوم مستصرِخا: من رجلٌ يكلؤنا اليوم؟!
فهل شعرنا ونحن في حقل الدعوة بما شعر به هذا الصحابي الجليل، وهل استحضرنا نية المرابطة على الثغور ولو كان العمل الموكل إلينا بسيطا، وهل صاحبتنا هذه الروح حتى في الأعمال التي يَسُدُّ فيها الثغر سوانا، وفي كل مساراتنا الدعوية وتحركاتنا اليومية في سبيل نصرة الدين؟!
يا صاحب الرسالة .. انهض بعزم لا تنم .. وإذا أردت لهمتك أن تعلو ولعجزك أن يخبو ولأعذارك أن تتوارى ولقلبك أن يصحو ، فاستنشق عبير الرباط المبارك وكأنك وحدك الذي أنيط به التكليف وتلقى الأمر، وكأنك وحدك الذي يملك الجرعة الشافية لمريض أشرف على الهلاك، وأشرِب قلبك –وأنت تتحرَّك في دعوتك- أنك إن لم تقم بأي واجب من واجباتك الدعوية أصيب الدين في مقتل، وأنت السبب!!
عوتب الإمام أبو الأعلى المودودي في كثرة اجتهاده، وطالبه تلامذته يوما أن يستريح جالسا، فقال: «إذا جلستُ أنا، فمن عساه يبقى واقفا!!».
الوقوف وحيدا!!
يدفعك إلى ذلك ويحثك عليه وقوفك غدا للحساب عاريا إلا من عملك، لا يدفع عنك ملائكة العذاب سوى بذلك، ولا يتكلم عنك إلا صحيفة حسناتك، ولا يحجب وجهك عن حرارة جهنم مثل حرارة السعي على مصالح الدعوة، وعندها تشهد الجوارح لتُعرّي كل من ارتدى ثوب السلبية القبيح يوم تتوالى الاعترافات وتتقدَّم الشهادات.
وكأن الحسن البصري لمح نفرا من الدعاة ازدحم الناس حولهم واحتفوا بهم، فانطلق يعظهم موعظة من ارتدى ثيابهم واحترف حرفتهم، فخبر عيوبهم وأمراضهم ثم انطلق يدعوهم:
«رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس، ابن آدم إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتُبعث وحدك، وتحاسب وحدك .. ابن آدم!! وأنت المعني وإياك يُراد
ذاتية الانطلاق والاستمرار: صاحب الرسالة لا يحتاج إلى سماع صرخة استغاثة ضحية تحتضر بين يديه لينتفض، ولا يحتاج إلى من يذكِّره بدوره بل هو من يذكِّر غيره، فما نزل بالأمة يوقظ الأموات ويطرد السبات.
يا صاحب الرسالة .. إذا وجدت صفا معوجا فقوِّمه، وإن لم تجد صفا فكن أنت الصف، ولك -إن فعلت- أجر السبق وثواب الأوائل وحسنات كل من اصطف خلفك وحذى حذوك!!
يا صاحب الرسالة .. لا تحتاج مني أن أذكِّرك بأنك لست حامل رسالة بل صاحب رسالة، وفارق شاسع بين الاثنين.
• أنت الذي تخاف على دعوتك وتبذل في سبيلها فوق ما تستطيع.
• أنت الذي تستفرغ كل ذرة جهد لها لا تبخل أو تدَّخر.
• أنت الذي تنام وتستيقظ على هَمٍّ وحيد: أن تنتصر الدعوة وتسود.
• أنت الذي تستشعر أجَلَّ نعم الله عليك: أنك قمت ونام غيرك، وبذلت وبخل غيرك، وسهرت ونام غيرك، وتألمت فعملت وتبلدت مشاعرهم فاستراحوا.
أخي صاحب الرسالة ..
لست موظفا حكوميا يؤدي عمله في أوقات العمل الرسمية ثم ينصرف، حاشاك.. بل أنت صاحب عمل تؤرِّقه خسارته فلا يهدأ حتى تشرق على دعوته شمس الأرباح، ويحتال لها ويصل الليل بالنهار من أجلها حتي يبلغ غايته ويحرز هدفه، ويظلُّ يُفكِّر ويسهر ويجرِّب ويتعب حتى يربح دينه ويُقبِل الناس على فكرته، أنت من قال فيه البحتري: متقلقلَ الأحْشاءِ في طلب العُلا... حتَّى يكونَ على المعالي قيمِّا
خير الكلام ما قلَّ ودلَّ: أنت صاحب هَمٍّ جليل وأمل نبيل لا يقطعه عنك سوى الموت.
يا ذاتي الانطلاق والحماس..
أنت ما كنت يوما إمعة ولن تكون .. وأنا واثق أنك لن تنجرف مع تيار الغفلة المحيط بك إحاطة السوار بالمعصم، ولن يكون أقصى طموحاتك ومنتهى آمالك أن لا تتأثَّر به بل أن تُزيله من الوجود.
أنت ضوء لا يسُبُّ الظلام بل يُبدِّده .. لذا لا تُلقي باللائمة على غيرك .. فقد تربَّيت على أن الشكوى علامة ضعف واعتراض على الخالق مما لا يليق بصاحب دعوة مثلك!!
يا حامل الأمانة .. لا يتحرَّك بمُحرِّك إلا خامل، وهذا لا يقوم إلا إذا سمع صيحة: قم يا فلان، ولست من هؤلاء، لذا لا تنتظر الخطط لتتحرك، ولا يعوزك التحفيز لتنطلق.
وأخيرا .. لا يفهم هذه المعاني إلا من يعاني، وصاحب الرسالة ما كان يوما على الدعوة عالة بل شامة، فأرنا التصدي للبذل؟! وأظهِر الشوق للتعب؟! وارتدِ ثوب العمل
4. الإبداع الدعوي:
من علامات أن تكون مهموما بدعوتك أن تُبدِع في سبيلها كما أبدع أهل الباطل في سبيل باطلهم، ونحن أولى بالإبداع منهم، وقل لي بربك: لماذا نرى الإبداع اليوم وكأنه حِكر على الكفرة وخُدَّام الدنيا؟ ونبحث عن المبدعين من أجل الدين فنجدهم ندرة.
إن الإبداع الدعوي اليوم صار فريضة لازمة لأن زمن الرتابة انتهى وبدأ زمن السرعة والتجديد، وناشئة القرن الحادي والعشرين تترعرع في ظل شهوات دنيوية تغيِّر ثيابها الزاهية كل يوم، وتتلون بألوان الطيف، وتتجدَّد على مدار الساعة لتخلب الأبصار وتُدخِل الناس النار فماذا فعلنا نحن لإنقاذهم؟!
قلِّب الأنظار حولك: إبداع دنيوي يجيده أهل الباطل يتعالى كل يوم ويتطور كل لحظة، مما يجعل تقديم الهداية اليوم في ثوب قديم وأسلوب تقليدي لا يواكب العصر ويراعي المتغيِّرات صادٍّا للأجيال الجديدة لنبوء نحن بالإثم ونرجع بوزر الصد عن دعوة الله!!
وتشتمل مجالات التفكير الإبداعي على:
* إيجاد البديل لكل رذيل وِفْق الضوابط الشرعية.
* ابتكار حلول للمشاكل التي تواجهها الدعوة على طريقة الماء الجاري!! وتأمل ماذا يفعل الماء إذا جرى ووجد أمامه عقبة؟!
يمُرُّ من اليمين أو الشمال، فإن لم يكن هناك يمين أو شمال؟! علا الماء الصخرة رويدا رويدا حتى يغمرها ثم يجتازها ماضيا في طريقه، ومع مرور الوقت يحفر الماء عمق الصخرة ليُحطِّمها في النهاية، فكن ماء جاريا لا تستسلم لعقبة زرعوها أمامك ليُقعدوك.
* فتح أبواب جديدة لم تطرقها الدعوة من قبل: عن طريق غزوات دعوية جديدة، وانتشارات في ميادين وساحات ظلت أبوابها زمنا مغلقة وأبوابها مؤصدة تنتظر الفاتح يا فاتح!!
* عدم الرضا بالواقع الدعوي والتطلع دوما للأفضل في ظل تطوير مستمر للعمل حتى لا يكاد يُؤدى العمل نفسه بذات الطريقة مرتين.
وأسألك في ضوء ما قرأت: الإبداع وليد المعاناة وحمل الهمِّ فماذا أبدعت من مشاريع لدينك وأفكار لدعوتك؟ حصيلة الهمِّ: إبداع، فأين حصيلتك؟!
الفشل أبو الإبداع
ذكروا عن قصة نجاح إبراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أنها استُهِلَّت بفصول من الفشل متتالية:
• فشل في مجال الأعمال وهو في الحادية والعشرين من عمره.
• هزم في انتخابات تشريعية وهو في الثانية والعشرين من عمره.
• بعد تجربته الأولى .. فشل أيضا في مجال الاعمال وهو الرابعة العشرين.
• تغلب على موت حبيبته وهو في السادسة والعشرين.
• أصيب بانهيار عصبي وهو في السابعة والعشرين .
• خسر في انتخابات الكونجرس وهو في الرابعة والعشرين.
• خسر مرة أخرى في انتخابات الكونجرس وهو في السادسة والثلاثين.
• خسر في انتخابات مجلس الشيوخ وهو في الخامسة والأربعين.
• خسر في انتخابات مجلس الشيوخ مرة أخرى وهو التاسعة والأربعين.
ومع ذلك لم تنل هذه الانتكاسات من عزيمته شيئا، ولم ينقطع كفاحه حتى بلغ منصب الرئاسة، ومع أنه رجل كافر لا يرجو ثوابا كالجنة أو يخشى عقابا كالنار، لكنه مع ذلك ما يأس من تكرار فشله، وصاحب الرسالة يستحي أن يكون عزمه أوهن وصبره أرق ويخاطب نفسه: كيف أيأس و لي في كل خطوة اغتراف أجر جزيل ورضا رب جليل ﴿ وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [ النساء: 104]
أخي صاحب الرسالة .. هل لي أن أقول لك: لا يمكن أن تمر الحياة دون لحظات ألم، لكن الذكي من يستعمل هذا الألم في صقل مهاراته وتربية ذاته، فأخبرني: كم مرة حاولت؟ وبعد كم محاولة يأست؟! وكيف تيأس من فشل أنت مأجور عليه؟! وكيف لا تستغله ليكون جسرك إلى نجاح دعوي عاجل وفوز أخروي آجل؟! أخشى أن تكون نظرتنا إلى المشكلة هي أصل المشكلة، فاحفظ معي وردِّد:
ولا أدرك الحاجات مِثلُ مثابرٍ *** ولا عاق منها النَّجح مِثل تَوانِ
كلمة الفشل لا وجود لها في قاموس صاحب الرسالة، وأي تعثر دعوي اليوم إن سُمِّي فشلا فعلى سبيل المجاز، أما هو في حقيقته فهو ذروة النجاح لأنه سلم نحو النجاح، فالبس ثوب التجربة والمحاولة، ودع عنك قول: لست لها، واجعل مكانها: أنا لها.
وإن حدثتك النَّفس أنك قادر على ما حوت أيدي الرجال فجرِّبِ ماذا عليَّ أن أفعل؟!
* اعقد جلسات العصف الذهني المُوجَّه مع إخوانك في الهمِّ وزملائك في حمل الرسالة.
* لا تستعجل في الحكم على الأفكر الجديدة ورفضها بل رحِّب بالأفكار الجديدة، ثم ابْنِ عليها لتصبح مع التطوير والتعديل مناسبة.
* اجعل بصرك حادا في مشاهداتك اليومية لتلتقط الأفكار الجديدة حولك وتسخِّر مثلها وأفضل منها لدعوتك.
* أهم من الفكرة تنفيذها، ويمكنك استخدام محصلة ضرب التكلفة في الفائدة لتعرف أسس التعامل مع الفكرة:
- تكلفة قليلة + فائدة كبيرة= نفِّذ على الفور
- تكلفة قليلة + فائدة قليلة= نفِّذ على الفور
- تكلفة كبيرة + فائدة قليلة= ارفض الفكرة
- تكلفة كبيرة + فائدة كبيرة= ادرس الفكرة بعمق لقبولها أو رفضها.
* وأرى أنه لا مناص من أن ينظِّم الدعاة جائزة دورية؛ شهرية أو ربع سنوية، لأفضل فكرة أضافت للدعوة جديدا، أو قرَّبت بعيدا، أو أزاحت عقبة، أو أخرجت ثمرة، وذلك تشجيعا للعقول المبدعة ، وإثارةً لغيرة العقول التقليدية الجامدة، افعلوها-إخوتاه- وسترون العجب!!
البحث عن الكنز!!
يا صاحب الرسالة .. يا صاحبة الرسالة:
وهبكما الله مواهب دفينة وطاقات هائلة، لكنها اليوم دفينة مغمورة في بئر الإهمال والنسيان، مجهولة تنتظر من يُنقِّب عنها بمعول العزيمة، وعندها تظفران بالجواهر وتعرفان سِر قوتكما ومفتاح تميزكما، فتسخِّرانها لخدمة الدعوة.
وما أكثر حاملي الرسالة الذين لم يكتشفوا المواهب الربانية التي حباهم بها الله، ومن ثم لم يستخدموها الاستخدام الأمثل لنصرة الحق والدفاع عنه؟! وهل يظن أحدٌ أن النعم لا تبعات من ورائها؟! أو أن العطاء لا يؤاخَذ عليه؟! أو يظن الغني أن حسابه عند الله مثل حساب الفقير؟! أو أن حساب الذكي مثل حساب الغبي؟! أو حساب الفصيح كالعيي؟! أو العالم كالجاهل؟! تعالى الله عن ذلك: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [ الأنعام: 165]
والدَّرجات هنا استعارة لتفاوت النِّعم بين الناس، مبنيَّة على تشبيه المعقول بالمحسوس لتقريبه إلى الأفهام، وتشمل الدرجات جميع أنواع التميز والاختلافات بين الناس اليوم في الأرزاق والأخلاق والأفهام والمحاسن والمواهب والمناصب .. وهي سنة إلهية محكمة .. الحكمة منها: ﴿ ﴾.
فهذه الدرجات الهدف منها إذن: الابتلاء، فكل ما رزقكم الله من النعم الظاهرة أو الخفية فإنما يبلوكم الله به، فهل تنجحون في الاختبار فتسخِّرون هذه المواهب في طاعة الله وخدمة دينه؟ أم تضيِّعونها هدرا؟
ثم يأتي ختام الآية: ﴿ • ﴾، ليفرض السؤال: ما العلاقة بين أول الآية وآخرها؟!
والجواب: إن عقاب الله سريع الإتيان لمن لم يراع حقوقه في ما آتاه من مواهب وملكات فلم يشكره، أما من حباه الله النعم فبذلها في سبيل الله تجاوز الله عن كل ما بدر منه بمغفرته ورحمته، والله أعلم.
وصية ماسية أخيرة تلمع عندما تسقط عليها أشعة ذكائك الإيماني: ركِّز على نقاط قوتك أكثر من نقاط ضعفك.
قد تقضي الأعوام في معالجة نقاط ضعفك، وقد تنجح في ذلك قليلا أو كثيرا، لكنك لو نظرت في ما أنت متميِّز فيه وعملت على تسخيره لدينك لكان ذلك أيسر عليك وأربح لدعوتك
5.المظهر مع الجوهر
يا صاحب الرسالة ..
اغسل نفسك اليوم في نهر الدعوة حتى لا تبقى خلية من جسدك إلا وقد تشبَّعت بالدعوة وهَمِّ الدعوة، فينضح ذلك على كل ما يراه الناس فيك، ويسمعونه منك، ويعلمونك عنك، فتدرك بذلك شرف الجهاد وإن لم تجاهد، وتنال ثواب المجاهدين من غير نزال أو قتال.
يقول الإمام البنا رحمه الله: «أستطيع أن أتصوَّر المجاهد شخصا قد أعدَّ عُدَّته، وأخذ أهبته، وملك عليه الفكر فيما هو فيه نواصي نفسه وجوانب فكره، فهو دائم التفكير عظيم الاهتمام على قدم الاستعداد أبداً إن دُعي أجاب، أو نودي لبى، وغدوه ورواحه وحديثه وكلامه وجده ولعبه، لا يتعدى الميدان الذي أعد نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته، يجاهد في سبيلها، تقرأ في قسمات وجهه، وترى في بريق عينيه، وتسمع من فلتات لسانه ما يدلك على ما اضطرم في قلبه من جوى لاصق وألم دفين، وما تفيض به نفسه من عزمة صادقة وهمة عالية وغاية بعيدة».
يشير بذلك إلى ما تعارف عليه علماء القلوب وأجمعوا عليه من أنَّ «لسانك ترجُمان قلبك؛ ووجهك مرآةُ قلبك؛ يتبيَّن على الوجه ما تُضْمِر القلوب»( )، فيعلم بذلك كل صاحب رسالة حقيقة نسبه وصدق انتمائه لهذه الدعوة.
الخَلق والخُلُق
ومن هذا أن صاحب الرسالة صاحب سمت مميز، وبصمة لا تُزيَّف، وشكل يُخبِر عن باطن، ومظهر يُفشي سرَّ جوهر.
يعلم أن المشاركة في الشكل لا بد أن تورث موافقة في الأعمال حتما مقضيا وقدرا مقدورا، لذا اشتد تمسكه بتميُّزه في كل شيء، وشخصيته المستقلة التي يُشار إليها بالبنان، ليس إمَّعة يقلِّد أعداءه، ولا ينبهر بمظاهر الغافلين من أبناء قومه.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الهدي الصالح و السمت الصالح و الاقتصاد جزء من خمسة و عشرين جزءا من النبوة»( ).
فالسمت الصالح هو مظهر هام. يقول ابن تيمية مشدِّدا على أهميته: «إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال ، وهذا أمر محسوس ، فإن اللابس لثياب أهل العلم- مثلًا- يجد في نفسه نوع انضمام إليهم ، واللابس لثياب الجند المقاتلة- مثلًا- يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك»( ).
وما حلَّله المؤلف رحمه الله عن أثر التشبه والتقليد على الشخصية يستحق أن يكون اليوم قاعدة من قواعد علم الاجتماع، سبق بها رسول الله ^ حين قال: «من تشبَّه بقوم فهو منهم»( ).
أضف إلى هذا ما هو أكثر: التشابه في الزي والشكل والسلوك والعادات لا بد وأن يورث نوع مودة ومحبة بين المتشابهين مما يسميه علماء النفس اليوم : اللاشعور أو العقل الباطن، تماما كما أن المحبة في الباطن تورث تناسبًا وتشابها في الظاهر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟! فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد»( ).
ومن هذا التميز الذي يحرص عليه صاحب الرسالة وصاحبة الرسالة:
• الحرص على لغتنا وعدم استخدام اللغات الأجنبية على وجه الاعتياد والدوام أو لغير ضرورة، وهو ما أوصى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه وحرص عليه فقال : «إياكم ورطانة الأعاجم»( ).
ومن هذا تبرز خطورة استجلاب البعض للخدم والمربيات والسائقين الأجانب، حيث يتعلم الأطفال منهم لغات غير لغتهم، ويتحدثون معهم باللسان الأجنبي لغير غرض سوى المباهاة.
• الأعياد: فلا عيد عندنا إلا الفطر والأضحى، فلا أعياد ميلاد وما شابه، والأعياد في الإسلام من جملة الشرائع والمناسك كالقبلة والصلاة والصيام، وليست مجرد عادات ، وهنا يكون تقليد الكافرين أشد وأخطر .
• ترك الأناقة الزائدة: فلا يليق بصاحب الرسالة أن يسبي عقله آخر صيحات الموضة، ولا أن يقتني ألوان الأزياء التي يتفانى في شرائها فارغو العقول والقلوب، لأنه أعلى من ذلك وأسمى.
ذُكِر أن الدكتور أحمد الملط ذهب إلى الإمام البنا وهو يضع منديلا في جيب البدلة، فأخذ الإمام البنا يدخل المنديل في جيب البدلة، ويقول: يا أبو حميد .. لا يليق ذلك بالمجاهدين، فكان ذلك درسا عمليا في طبيعة حياة المجاهدين.
• الحجاب المتبرِّج: انبهارا بالوسط المحيط المتدني، وتلبية لغريزة المرأة في التزين ولفت الأنظار، فتخلع الأخت خمارها السابغ، وترتدي الملفت من الألوان والمزركش من الثياب، ولا يعود الحجاب حاجبا للزينة بل مصدرا للزينة
6.الحزن الحقيقي:
علام حزنك؟ علام حزنك؟ علام حزنك؟
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن وتكاد روحه تزهق؟! علام؟!
اسمع ما خاطب الله عز وجل به حبيبه قائلا: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ﴾ [ الكهف: 6]
أي مرهقٌ نفسك، ومتلفٌ جسدك، وأنت تطلب هداية قوم يُعرِضون عنك، وتريد لهم الخير فيهربون منك، وتقدِّم لهم الجنة فيقتحِمون النار!!
فهل شابه قلبك قلب نبيك؟ وهل شعرت بما به شعر؟!
إنه الحزن على حال الغافلين من أمتنا، أو الحسرة على فرصة هداية سنحت، أو غنيمة دعوية سهلة ضاعت، وكم من قلوب احترقت همَّا من أجل دينها ففاحت عطرا شذيا يجذب الناس إليها، وكم من نفوس ضاقت لحال أمتها فوسَّع الله لها أرجاء الأمل والعمل، وكم من عبرات سالت في المحن فارتوت منها الهمم ومزَّقت عن الأمة كفن الوَهَنْ
7.التضحية:
صاحب الرسالة يتقلب بين ألوان التضحية المختلفة، فمنها التضحية:
• بالراحة: ومن مفردات الراحة مكوث المرء في بيته، وهو عيب في عُرف شامخي الهمم، كما نطق بذلك لسان الصحابي المُبشَّر بالجنة طلحة بن عبيد الله ر
الموضوع : صاحب الرساله المصدر : مسجد الهدي المحمدي الكاتب: سعيدعبدالله توقيع العضو/ه :سعيدعبدالله |
|