شخصية الأسبوع
الشخصية السابعة والستون
عبد الله بن عباس
هو حَبْر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة
إذ تُوفِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان أبيض طويلاً مشربًا صفرة، جسيمًا وسيمًا، صبيح
الوجه، فصيحًا.
علم عبد الله بن عباس الغزير ومجالسه
قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: كان ابن عباس رضي الله عنه قد فات الناس
بخصال: بعلم ما سبقه، وفقه فيما احتيج إليه من رأيه، وحلم ونسب ونائل، وما رأيت
أحدًا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه، ولا بقضاء أبي
بكر وعمر وعثمان منه، ولا أفقه في رأي منه، ولا أعلم بشعر ولا عربية ولا بتفسير
القرآن ولا بحساب ولا بفريضة منه، ولا أثقب رأيًا فيما احتيج إليه منه، ولقد كان
يجلس يومًا ولا يذكر فيه إلا الفقه، ويومًا التأويل، ويومًا المغازي، ويومًا
الشعر، ويومًا أيام العرب، ولا رأيت عالمًا قَطُّ جلس إليه إلا خضع له، وما رأيت
سائلاً قط سأله إلا وجد عنده علمًا
وعن أبي صالح قال: لقد رأيت من ابن عباس رضي الله عنه مجلسًا لو أن
جميع قريش فخرت به لكان لها به الفخر؛ لقد رأيت الناس اجتمعوا حتى ضاق بهم الطريق،
فما كان أحد يقدر على أن يجيء ولا يذهب.
عبد الله بن عباس وليلة في بيت النبي
عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: أمرني العباس رضي الله عنه قال: بِتْ
بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة. فانطلقت إلى المسجد، فصلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم العشاء الآخرة حتى لم يبق في المسجد أحد غيره. قال: ثم مر بي فقال:
«من هذا؟» فقلت: عبد الله. قال: "فمه؟" قلت:
أمرني أبي أن أبيت بكم الليلة. قال: «فالْحِقْ». فلما
دخل قال: «افرشوا لعبد الله». قال: فأتيت بوسادة من
مسوح. قال: وتقدم إليَّ العباس أن لا تنامَنَّ حتى تحفظ صلاته. قال: فقدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فنام حتى سمعت غطيطه. قال: ثم استوى على فراشه، فرفع رأسه
إلى السماء فقال: «سبحان الملك القدوس» ثلاث مرات، ثم
تلا هذه الآية من آخر سورة آل عمران حتى ختمها: {إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164]
، ثم قام فبال، ثم استنَّ بسواكه، ثم توضأ، ثم دخل مصلاه فصلى ركعتين ليستا
بقصيرتين ولا طويلتين. قال: فصلى ثم أوتر، فلما قضى صلاته سمعته يقول: «اللهم اجعل في بصري نورًا، واجعل في سمعي نورًا، واجعل في لساني نورًا،
واجعل في قلبي نورًا، واجعل عن يميني نورًا، واجعل عن شمالي نورًا، واجعل أمامي
نورًا، واجعل من خلفي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، واجعل من أسفل مني نورًا، واجعل
لي يوم القيامة نورًا، وأعظم لي نورًا».
تربية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بغلة، أهداها له
كسرى، فركبها بحبل من شعر ثم أردفني خلفه، ثم سار بي مليًّا، ثم التفت فقال: «يا غلام». قلت: لبيك يا رسول الله. قال: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء
يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم
بما هو كائن، فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو
جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل
بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر؛ فإن في الصبر على ما تكرهه خيرًا
كثيرًا، واعلم أن مع الصبر النصر، واعلم أن مع الكرب الفرج، واعلم أن مع العسر
اليسر».
حرص ابن عباس على اتباع سنة رسول الله
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه طاف مع معاوية رضي الله عنه بالبيت، فجعل معاوية رضي
الله عنه يستلم الأركان كلها، فقال له ابن عباس رضي الله عنه: لمَ تستلم هذين
الركنين، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما؟ فقال معاوية رضي الله
عنه: ليس شيءٌ من البيت مهجورًا. فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:
21]. فقال معاوية رضي الله عنه: صدقت.
من مناقب عبد الله بن عباس
أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: «وإن حبر هذه
الأمة لعبد الله بن عباس».
وقد أثنى عليه عدد من الرجال، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي
يقول عنه: "ذلك فتى الكهول، له لسان سئُول، وقلب عقول".
وقال القاسم بن محمد رضي الله عنه: "ما سمعت في مجلس ابن عباس
باطلاً قط، وما سمعت فتوى أشبه بالسنة من فتواه".
ابن عباس في مجلس الفاروق
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا دعا الأشياخ من
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دعاني معهم، فدعانا ذات يوم أو ذات ليلة فقال: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ما قد علمتم؛ فالتمسوها في العشر
الأواخر، ففي أي الوتر ترونها؟ فقال بعضهم: تاسعه. وقال بعضهم: سابعه، وخامسه،
وثالثه. فقال: ما لك يابن عباس لا تتكلم؟ قلت: إن شئت تكلمت. قال: ما دعوتك إلا
لتكلم. فقال: أقول برأي؟ فقال: عن رأيك أسألك. فقلت: إني سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم: «إن الله تبارك وتعالى أكثر ذكر السبع، فقال:
السموات سبع، والأرضون سبع»، وقال: {ثُمَّ شَقَقْنَا
الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا *
وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 26، 31]. فالحدائق ملتف، وكل ملتف حديقة، والأَبّ ما
أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس". فقال عمر رضي الله عنه: أعجزتم أن تقولوا
مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستوِ شئون رأسه؟! ثم قال: إني كنت نهيتك أن تكلم،
فإذا دعوتك معهم فتكلم.
ذكاء ابن عباس الفذّ وسرعة بديهته
بعث الإمام علي رضي الله عنه ابن عباس رضي الله عنه ذات يوم إلى طائفة من الخوارج،
فدار بينه وبينهم حوار طويل، ساق فيه الحجة بشكل يبهر الألباب؛ فقد سألهم ابن عباس
رضي الله عنه: "ماذا تنقمون من علي؟"
قالوا: "نَنْقِم منه ثلاثًا: أولاهُن أنه حكَّم الرجال في دين
الله، والله يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} [الأنعام: 57]. والثانية: أنه قاتل ثم لم يأخذ من مقاتليه
سَبْيًا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارًا فقد حلّت له أموالهم، وإن كانوا مؤمنين فقد
حُرِّمَت عليه دماؤهم. والثالثة: أنه رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير
المؤمنين استجابةً لأعدائه، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين".
وأخذ ابن عباس رضي الله عنه يُفَنّد أهواءهم، فقال: "أمّا قولكم:
إنه حَكّم الرجال في دين الله، فأي بأس؟! إن الله يقول: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم} [المائدة: 95].
فَنَبِّئوني بالله، أتحكيم الرجال في حَقْن دماء المسلمين أحق وأوْلى، أم تحكيمهم
في أرنب ثمنها درهم؟!
وأما قولكم: إنه قاتل فلم يسْبِ ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ
عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سَبْيًا، ويأخذ أسلابها غنائم؟!
وأما قولكم: إنه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين حتى يتم
التحكيم، فاسمعوا ما فعله رسول الله يوم الحديبية؛ إذ راح يُملي الكتاب الذي يقوم
بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب: «هذا ما قاضى عليه محمد
رسول الله». فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما
صَدَدْناك عن البيت ولا قاتلناك، فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله. فقال
لهم الرسول: «والله إني لرسول الله وإن كَذَّبْتُم». ثم قال
لكاتب الصحيفة: «اكتب ما يشاءون، اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله».
واستمر الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر، وما كاد
ينتهي النقاش حتى نهض منهم عشرون ألفًا معلنين اقتناعهم، وخروجهم من خُصومة الإمام
علي رضي الله عنه.
من أقوال ابن عباس
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: إذا أتيت سلطانًا مهيبًا تخاف أن يسطو بك، فقل:
الله أكبر، الله أكبر من خلقه جميعًا، الله أعز مما أخاف وأحذر، أعوذ بالله الذي
لا إله إلا هو، الممسك السموات السبع أن تقعن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان
وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس، إلهي كن لي جارًا من شرهم، جل ثناؤك، وعز
جارك، وتبارك اسمك، ولا إله غيرك. ثلاث مرات.
وله أقوال كثيرة في الحكمة والنصيحة منها: "خذ الحكمة ممن سمعت؛
فإن الرجل يتكلم بالحكمة وليس بحكيم، فتكون كالرمية خرجت من غير رامٍ".
وفاة عبد الله بن عباس
مات عبد الله بن العباس رضي الله عنه بالطائف سنة ثمانٍ وستين، وهو ابن إحدى
وثمانين سنة.