نور الدين محمود
الجزء الثانى
كان نور الدين محمود وهو في الثلاثين من عمره واضح الرؤية والهدف منذ أن تسلم الحكم حتى يوم وفاته، إذ كان عليه واجب الجهاد
لتحرير الأرض من الصليبيين المعتدين وعلى رأسها بيت المقدس، وتوفير
الأمان للناس، وأدرك أن الانتصار على الصليبيين لا
يتحقق إلا بعد جهاد طويل ومرير حافل بالتضحيات في
خطوات متتابعة تقرب كل منها يوم الحسم، فالخطوة الأولى التي كان قد بدأها والده عماد الدين زنكي حين حرَّر إمارة الرها التي تشكِّل تداخلاً
مع الأراضي الإسلامية، فتمكن بذلك من تطهير الأراضي
الداخلية وحصر الوجود الصليبي في الشريط الساحلي،
وعليه أن يخطو الخطوة الثانية، لذلك وضع أسس سياسة
متكاملة تتضمن توحيد بلاد الشام أولاً، ثم توحيد بلاد الشام ومصر التي كانت تعاني من الاضطرابات وفوضى الحكم ثانيًا، وطرد الصليبيين من المنطقة ثالثًا، وكان التوحيد في نظره يتضمن توحيد الصف والهدف في آن
واحد، فأما توحيد الصف فهو جمع بلاد الشام ومصر في إطار
سلطة سياسية واحدة، وأما توحيد الهدف فهو جمع المسلمين
تحت راية مذهب واحد هو مذهب أهل السنة، وكان كلَّما
توغل في خضم الجهاد، وتقدم به الزمان يزداد اقتناعًا بصواب هذه السياسة، وكان سبيله إلى ذلك مزيجًا من العمل السياسي والمعارك العسكرية التي تخدم توحيد الصف والهدف
ولكن
لم تكن الأمور مستقرة أبدًا على الجبهة الداخلية، فقد كانت مراكز القوى المتنافسة في العالم الإسلامي كثيرة، وكانت
هذه المنافسة تأخذ أحيانًا شكلاً حادًّا
وعنيفًا، غير أن خطر الصليبيين دفع القوى الإسلامية في
أحيانٍ كثيرة إلى دفن خلافتها وتجاوز منافساتها، وكانت بعض القوى الإسلامية تقوم بدور الوساطة أحيانًا، لجمع الكلمة وتوحيد الجهد ضد أعداء الدين، ومثال ذلك ما حدث سنة 560هـ/ 1164م عندما وقع خلاف حاد بين نور الدين محمود بن زنكي وبين صاحب الروم قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان أدى إلى الحرب والتضاغن، فلما بلغ خبر ذلك إلى مصر، كتب وزير صاحب مصر
- الصالح بن رزيك - إلى قلج أرسلان ينهاه عن ذلك، ويأمره
بموافقة نور الدين واتّباعه،
وكان لذلك دوره في إخماد ثائرة الفتنة التي كان للروم دورهم فيها بتحريض قلج أرسلان لصرف نور الدين عن
جهاد الصليبيين.
وفي
سنة 562هـ/ 1166م، أعلن (صاحب مَنْبج) واسمه غازي بن حسان المنبجي عصيانه، وتمرد على نور الدين الذي كان قد عينه على
حكم منبج، فما كان من نور الدين إلاّ أن وجه إليه
قوة عملت على حصاره، ثم إخراجه من منبج التي أسند
نور الدين حكمها إلى أخيه قطب الدين الذي عين (ينال بن حسان) لإدارة الحكم فيها، وكان عادلاً خيرًا محسنًا إلى الرعية، جميل السيرة فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 572هـ/ 1177م.
وكانت
معظم ديار بكر وحصن كيفا تحت حكم فخر الدين أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق، وتصادف أن مرض سنة 562هـ/ 1166م،
وشعر باقتراب منيته، فكتب إلى نور الدين محمود رسالة
جاء فيها: "إن بيننا صحبةً في جهاد الكفار، أريد أن ترعى
بها ولدي". وما لبث فخر الدين أرسلان أن توفي، وخلفه من بعده ابنه محمد، فقام نور الدين بحمايته والدفاع عنه، وكان قطب الدين مودود صاحب الموصل وشقيق نور الدين قد طمع بضم أملاك فخر الدين أرسلان إلى أملاكه، ووجه جيشًا لهذه الغاية، فأسرع نور الدين وكتب رسالة إلى أخيه قطب الدين جاء فيها: "إن قصدت أو تعرضت لبلاده، منعتُك قهرًا" فامتنع قطب
الدين عن تنفيذ ما كان يريده.
كانت
هناك قلعة تحمل اسم ( قلعة جغبر)، وهي التي اغتيل عندها عماد الدين زنكي، وهي من أمنع القلاع وأحصنها مطلعة على الفرات
من الجانب الشرقي، وكانت هذه القلعة تحت حكم
شهاب الدين مالك بن علي بن مالك العقيلي، وكان وجود
هذه القلعة وسط البلاد التي يحكمها نور الدين، مصدرَ تهديد للقاعدة التي كان يستند إليها نور الدين في حروبه وأيام سلمه، وقد رغب نور الدين
في الاستيلاء عليها، فوضع من حلفائه - بني كلاب - من
يترصد لحاكم القلعة وسيدها، وتصادف أن غادر
العقيلي حصنه في رحلة للصيد، فأخذه بنو كلاب وحملوه إلى نور
الدين ( في شهر رجب من سنة 563هـ/ 1168م)، فاستقبله نور الدين وأحسن إليه، ورغَّبه في الإقطاع والمال ليسلم إليه القلعة، فلم يفعل؛ فعدل إلى الشدة والعنف وتهدده فلم يفعل، فسيَّر إليها نور الدين جيشًا بقيادة الأمير فخر الدين مسعود بن علي الزعفراني، فحَصَرها مدة، فلم يظفر منها بشيء، فأمدهم بجيش آخر، وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية - وهو رضيع نور الدين وأكبر أمرائه - فحصر القلعة، غير أنه لم يَرَ له فيها مطمعًا، فسلك مع صاحبها طريق اللين وأشار عليه أن يأخذ من
نور الدين العوض، ولا يخاطر في حفظها بنفسه؛ فقَبِل
قوله وسلمها، فأخذ عوضًا عنها سروج وأعمالها والملاحة
التي بين حلب وباب بزاغة، وعشرين ألف دينار معجلة،
وهذا إقطاع عظيم جدًّا، إلا أنه لا حصن فيه، وهذا آخر أمر بني مالك العقيلي بالقلعة. وقيل للعقيلي: "أيما أحب إليك وأحسن مقامًا: سروج
والشام أم القلعة؟" فقال: "هذه أكثر مالاً،
وأمّا العز ففارقناه بالقلعة
وللحديث بقية
الموضوع : شخصية الأسبوع الشخصية الثانية عشر المصدر : مسجد الهدي المحمدي الكاتب: على حسن عبد الهادى توقيع العضو/ه :على حسن عبد الهادى |
|