شخصية الأسبوع
الشخصية التاسعة والعشرون
عمار بن ثابت
خرج
والد عمار بن ياسر من بلده اليمن يريد أخا له ، يبحث عنه ، وفي
مكة طاب له المقام فحالف أبا حذيفة بن
المغيرة ، وزوجه أبو حذيفة إحدى
إمائه ( سمية بنت خياط ) ورزقا
بابنهما ( عمار ) ، وكان إسلامهم مبكراً
يقول
عمار بن ياسر -رضي الله عنه- :( لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم ، ورسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فيها
فقلت
له : ماذا تريد ؟
فأجابني : ماذا تريد أنت ؟
قلت له : أريد أن أدخل على محمد ،
فأسمع ما يقول
قال : وأنا أريد ذلك
فدخلنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعرض علينا الاسلام ،
فأسلمنا ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا ، ثم خرجنا ، ونحن مستخفيان )فكان إسلامهما بعد بضعة وثلاثين
رجلاً
العذاب
وشأن
الأبرار المُبَكّرين أخذ آل ياسر نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها ، ووُكل أمر تعذيبهم
إلى بني مخزوم ، يخرجون بهم جميعا ياسر و سمية وعمار كل يوم الى رمضاء مكة
الملتهبة ويصبون عليهم من جحيم العذاب ، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم-
يخرج كل يوم الى أسرة ياسر مُحييا صمودها وقلبه الكبير يذوب رحمة وحنانا
لمشهدهم ، وذات يوم ناداه عمار :( يا رسول الله ، لقد بلغ منا العذاب كُلَّ مبلغ
) فناداه الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( صبرا أبا اليَقْظان ، صبرا آل ياسر
فإن موعـدكم
الجنة )
ولقد
وصـف أصحاب عمار العذاب الذي نزل به فيقول عمـرو بن ميمون :( أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار
، فكان الرسول -صلى
الله عليه وسلم- يمر به ، ويُمر يده على رأسه ويقول : يا نار كوني بردا وسلاما على عمار كما كنت
بردا وسلاما على إبراهيم ) و يقول عمرو بن الحكم :( كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول ) وقد فقد وعيه
يوما فقالوا له :( اذكر
آلهتنا بخير ) وأخذوا يقولون له وهو يردد وراءهم من غيـر شعور وبعد أن أفاق من غيبوبتـه
وتذكر ما كان طار صوابـه ، فألفاه الرسـول -صلى اللـه عليه وسلم- يبكي فجعل يمسح دموعه بيده ويقول له :(
أخذك الكفار فغطوك في الماء فقلت : كذا وكذا ؟) أجاب عمار وهو ينتحب :( نعم يا
رسول الله ) فقال
له الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يبتسم :( إن عادوا فقل لهم مثل قولك هذا ) ثم تلا عليه الآية
الكريمة
قال
تعالى :( مَنْ كَفَرَ باللهِ من بعد إيمانِهِ إلا من أُكْرِه وقلبُهُ مُطْمَئِنٌ
بالإيمان ) سورة النحل (106)
واسترد عمار سكينة نفسه ، وصمد أمام المشركينوعن عثمان بن عفان قال
: أقبلت أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخذٌ بيدي نتماشى في
البطحاء حتى أتينا على أبي عمّار وعمّار وأمه ، وهو يُعَذّبون فقال ياسر :(
الدهرُ هكذا ؟)له النبي -صلى الله عليه وسلم- :( اصْبِرْ ، الّلهمّ اغْفِر
لآلِ ياسر ، وقد فعلتْ )
وهاجر
عمّار ( أبو اليقظان)-رضي الله عنه- الهجرة الثانية إلى الحبشة ، ولمّا هاجر من مكة إلى المدينة
نزل على مُبَشِّر بن عبد المنذر ، وآخر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين
عمّار بن ياسر وحُذيفة بن اليمان ، وشهد عمّار بدراً والمشاهـد كلها ، وهو
أول من اتخذ في بيته مسجداً يُصلي فيه
استقر
المسلمون بعد الهجرة في المدينة ، وأخذ عمار مكانه عاليا بين المسلمين ، وكان الرسول -صلى الله
عليه وسلم- يحبه
حبا عظيما ، يقول عنه -صلى الله عليه وسلم- ( إن عمّارا مُلِىء إيمانا إلى مُشاشه -تحت عظامه- )وحين
كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة إثر نزولهم ، إرتجز علي بن أبي طالب
أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه ،وأخذ عمار يرددها ويرفع صوته ،وظن بعض
أصحابه أن عمارا يعرض به ، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول -صلى الله عليه
وسلم- وقال
:( ما لهم ولعمّار ؟يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ، إن عمّارا جِلْدَة ما بين عيني وأنفي
)
وعن
أبي سعيد قال : كنّا نحملُ في بناء المسجد لبنةً لبنةً ، وعمار يحمل لبنتَين لبنتَين ، فرآهُ
النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل ينفُض التراب عنه ويقول :( ويْحَ عمّار
يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار )
وحين
وقع خلاف عابر بين خالد بن الوليد وعمّار قال الرسول :( من عادى عمّارا عاداه الله ، ومن أبغض
عمّارا أبغضه الله )فسارع خالد إلى عمار معتذرا وطامعا بالصفحكما قال
-عليه أفضل الصلاة والسلام-:( اشتاقت الجنّةِ إلى ثلاثة : إلى علي ، وعمّار
وبلال )
لقد
بلغ عمار في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- يُزَكي إيمانه فيقول :(
اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عَمّار ) وقال الرسول -صلى
الله عليه وسلم- :( ابن سُميّة ما عُرِضَ عليه أمرٌ إلا اختار أشدَّهُما ) وقال
رسـول اللـه -صلى اللـه عليه وسلم- :( عمّار يزولُ مع الحقّ حيثُ يزول
)
كما
أن حذيفة بن اليمان وهو يعالج سكرات الموت سأله أصحابه :( بمن تأمرنا إذا اختلف الناس )فأجابهم
:( عليكم بابن سمية ، فإنه لا يفارق الحق حتى يموت )وقد سمع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول :( أبو اليقظان على الفطرة لا يَدَعُها ، حتى يموتَ أو
يمسّه الهرمُ )وعن علي قال : سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول :(
دمُ عمّار
ولحمه حرام على النّار أن تطعمه )
أثناء
بناء مسجد الرسـول -صلى الله عليه وسلم- أخذ الحنان الرسـول الكريـم الى عمار ، فاقترب منه
ونفض بيده الغُبار الذي كسـى رأسه ، وتأمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- وجه
عمار الوديع المؤمن ثم قال على ملأ من أصحابه :( وَيْحَ ابن سمية ، تقتله
الفئة الباغية ) وتتكرر
النبوءة حين يسقط الجدار على رأس عمار فيظن بعض إخوانه أنه مات ، فيذهب الى الرسول ينعاه ،
فيقول الرسول -صلى الله عليه سلم- بطُمأنينة وثقة :( ما مات عمار ، تقتل عماراَ الفئة الباغية
)
قتال الإنس والجن
قال
عمّار بن ياسر :( قد قاتلت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الإنس والجن )فقيل له :( ما هذا ؟
قاتلت الإنس فكيف قاتلت الجنَّ ؟) قال :( نزلنا مع رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- منزلاً
فأخذتُ قِرْبَتي ، ودَلْوي لأستقي ، فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :( أما أنه
سيأتيكَ آتٍ يمنَعُكَ مِنَ الماء ) فلمّا كنتُ على رأس البئر إذا رجلٌ أسودٌ كأنه مَرَسٌ فقال :( لا والله لا
تستقي منها ذَنوباً واحداً )فأخذته فصرعتَهُ ، ثم أخذتُ حجراً فكسـرتُ به أنفه
ووجهـهُ ، ثم ملأتُ قِرْبَتـي فأتيتُ بها رسـول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال :( هل أتاك على الماء من أحد ؟)فقلتُ :( عبدٌ أسودٌ ) فقال :(
ماصنعت به ؟)فأخبرته فقال :( أتَدْري مَنْ هو
؟)قلتُ :( لا ):( ذاك الشيطان ، جاء يمنعُكَ من الماء !!)
بعد
وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واصل عمار تألقه في مواجهة جيوش الردة والفرس والروم ، وكان
دوما في الصفوف الأولى ، وفي يوم اليمامة انطلق البطل في استبسـال عاصف ،
وإذا يرى فتـور المسلمين يرسل بين صفوفـهم صياحه المزلزل فيندفعون كالسهام ،
يقول عبـد الله بن عمـر :( رأيت عمار بن ياسر يوم اليمامة على صخـرة ، وقد أشرف
يصيح :( يا
معشر المسلمين أمِـن الجنة تفـرّون ؟ أنا عمار بن ياسر هلُمّـوا إلي)فنظرت إليه فإذا أذنه
مقطوعة تتأرجح ، وهو يقاتل أشد القتال )
لفضائله
-رضي الله عنه- سارع عمر بن الخطاب واختاره والياً للكوفة وجعل ابن مسعود معه على بيت
المال ، وكتب الى أهلها مبشرا :( إني أبعث إليكم عمَّار بن ياسر أميرا ، وابن
مسعود مُعَلما ووزيرا ، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد ومن أهل بدر
)يقول ابن أبي الهُذَيْل وهو من معاصري عمار في الكوفـة :( رأيت عمار بن ياسر وهو أميـر الكوفة يشتري من قِثائها ، ثم
يربطها بحبـل ويحملها فوق ظهـره ويمضي بها الى داره )كما ناداه أحد العامة يوما :( يا أجدع الأذن
)فيجيبه الأمير :( خَيْر
أذنيّ سببت ، لقد أصيبت في سبيل الله )
وجاءت
الفتنة ووقع الخلاف بين علي -كرم الله وجهه- ومعاوية ، فوقف عمار الى جانب علي بن أبي طالب
مُذعنا للحق وحافظا للعهد ، وفي يوم صِفِّين عام 37 هجري خرج عمار مع علي
بن أبي طالب وكان عمره ثلاثا وتسعين عاما ، وقال للناس :( أيها الناس
سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرن لعثمان ، ووالله ما
قصدهم الأخذ بثأره ، ولكنهم ذاقوا
الدنيا ، واستمرءوها وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم ، وما كان لهؤلاء سابقة في
الإسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم ولا الولاية عليهم ، ولا عرفت قلوبهم
من خشية
الله ما يحملهم على اتباع الحق ، وإنهم ليخدعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان ، وما
يريدون إلا أن يكونوا جبابرة وملوكا )
ثم
أخذ الرايـة بيده ورفعهـا عاليا وصـاح في الناس :( الجنّة تحت البارقة ، الظمآنُ قد يَرِدُ الماءَ
المأمور وذا اليوم ألْقى الأحبّة محمداً وحِزْبَه ، والله لو ضربونا حتى
يُبلّغونا سعفات هَجَر لعلمتُ أنّا على حقّ وأنّهم على باطل ، والله لقد قاتلتُ
بهذه الراية ثلاث مرّات مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وما هذه
المرّة بأبرّهنّ ولا أنقاهُنّ )
كان
عمار بن ياسر وهو يجول في المعركة يؤمن أنه واحد من شهدائها ، وكانت نبوءة الرسول -صلى الله
عليه وسلم- أمام عينيه :( تقتل عماراَ الفئة الباغية )من أجل هذا كان يغرد
قائلا :( اليوم ألقى الأحبة محمدا وصحبه )ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا
عمَّارا ما استطاعوا ، حتى لا تقتله سيوفهم فيتبين للناس أنهم الفئة الباغية ،
ولكن شجاعة عمار ابن الثالث والتسعين وقتاله كجيش لوحده أفقدهم صوابهم حتى
إذا تمكنوا
منه أصابوه ، وانتشر الخبر ، وتذكر الناس نبوءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فزادت فريق علي بن
أبي طالب إيمانا بأنهم على الحق ، وحدثت بلبلة في صفوف معاوية ، وتهيأ الكثير منهم للتمرد والإنضمام
الى علي ، فخرج معاوية خاطبا فيهم :( إنما قتله الذين خرجوا به من داره ،
وجاءوا به الى القتال ) وانخدع الناس واستأنفت المعركة
وقد
شهد خُزيمة بن ثابت الجمل وهو لا يسلُّ سيفاً ، وشهد صفّين وقال :( أنا لا أصلُ أبداً حتى
يُقتل عمّارٌ فأنظر مَنْ يقتلُهُ ، فأني سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يقول :( تقتلهُ
الفئة الباغية ) فلما قُتِلَ عمّار بن ياسر قال خزيمة :( قد بانت لي الضلالة ) واقترب فقاتل حتى
قُتِلَ
حمل
الإمام علي عماراً فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمـون معه ، ثم دفنه في ثيابه ، ووقف المسلمون
على قبـره يعجبون ، فقبل قليـل كان يغـرد :( اليوم ألقى الأحبة محمدا وصحبه )
وتذكروا قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- :( اشتاقت الجنة لعمّار
)
وقد
قال عليّاً -رضي الله عنه- حين قُتِلَ عمّار :( إنّ امْرأً من المسلمين لم يَعْظُمْ عليه قتلُ ابن
ياسر وتدخلُ به عليه المصيبةُ الموجعةُ لغيرُ رشيد ، رحِمَ الله عمّاراً
يوم أسلمَ ، ورحِمَ الله عمّاراً يوم قُتِلَ ، ورحِمَ الله عمّاراً يوم
يُبْعث حيّاً ، لقد رأيتُ عمّاراً وما يُذْكَرُ من أصحاب رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- أربعةٌ
إلا كان رابعاً ولا خمسةٌ إلا كان خامِساً ، وما كان أحدٌ من قدماء أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يشكُّ أن عمّاراً قد وجَبَتْ لهُ الجنّة في غير موطن ، ولا اثنين ، فهنيئاً لعمّار بالجنّة ،
ولقد قيل :( إنّ
عمّاراً مع الحقِّ والحقُّ معه ، يدور عمّارٌ مع الحقّ أينما دار ، وقاتِلُ عمّار في النّار
)
والى لقاء آخر استودعكم الله